من حقول الفراعنة إلى آلات الخليج الحديثة، مرت زراعة القطن المصري بتحولات جذريّة على مر العصور. فقد شهد هذا المحصول العريق صعوداً وهبوطاً، ولكنه ظل دائماً عنصراً حيوياً في الاقتصاد المصري. في هذه المقالة، سنتعقب مسيرة القطن المصري من بداياته المتواضعة إلى مكانته الرفيعة في عالم المنسوجات.
- من الانتاج المحلي للسمعة العالمية:
إن شهرة القطن المصري تشبه إلى حد كبير شهرة زيت الزيتون الإيطالي أو النبيذ الفرنسي، حيث أصبح المصدر اختصاراً للجودة. إنّ مصر واحدة من عدد قليل من البلدان التي تزرع نوعاً بارزاً بشكل خاص من القطن يسمى بالقطن طويل التيلة، المعروف في الولايات المتحدة باسم قطن بيما. وتشكل الأصناف طويلة التيلة ثلاثة في المائة من إنتاج القطن في العالم, رغم ندرتها إلا أنها تعدّ أفخر أنواع الألياف القطنية.
- فترة الازدهار:
كان إنتاج القطن في مصر ضئيلاً قبل القرن التاسع عشر لكن ازدهرت صناعة القطن المصرية لاحقاً نتيجة الحرب الأهلية الأمريكية التي سببت انخفاض الطلب العالمي على القطن الأمريكي نتيجة ارتفاع سعره بعد تصاعد أحداث الحرب.
ويُحكى أنّ رجل فرنسي يدعى لويس ألكسيس جوميل عثرَ على نبات قطن مهمل في إحدى حدائق القاهرة. تعجّب جوميل من مدى تكيف النبات مع المناخ، وكيف يمكن لأليافه الطويلة أن تُغزَل بسهولة في خيوط ناعمة, وأقنع محمد علي باشا، ملك مصر حينها، بفكرته. وبعدها ازدهر القطن في مصر، الذي كان يُزرَع على طول نهر النيل.
وفي الفترة ما بين عامي 1860 و1865، زاد مزارعو مصر إنتاجهم من القطن من خمسين مليون جنيه إلى مائتين وخمسين مليون جنيه. وسرعان ما تجاوز إنتاج مصر إنتاج الولايات المتحدة، حيثُ بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كانت مصر تحصل على 93% من عائداتها من القطن.
- تدهور اقتصاد البلاد:
أدى تزايد المنافسة الأجنبية في صناعة القطن إلى استقرار أسعار القطن العالمية، مما ترك السوق المصرية دون مجال كبير للنمو. ورغم تضخم الإنتاج الزراعي في مصر بمعدل لا يُصَدّق حتى أوائل القرن العشرين, فقد أدت العوامل البيئية والبشرية إلى خفض معدلات الإنتاج في الفترة اللاحقة. وبعد الازدهار السابق لصناعة القطن، بدأ عدد السكان في الزيادة بسرعة لم يستطع الاقتصاد مواكبتها, وأدت التكلفة المتراكمة لهذه المشاريع إلى خلق ديون كبيرة على الدولة وصلت لأكثر من مائة مليون جنيه.
- واقع انتاج القطن المصري:
إن إنتاج المنسوجات القطنية عملية طويلة ومعقدة ومليئة بفرص التلاعب. بعد أن يتم حصاده، يتم حلج القطن وغزله ثمّ نسجه في أقمشة في منشآت مختلفة. يعتبر القطن محصولًا كثيف الاستخدام للمياه، كما أن استدامة زراعته في بلد جاف مثل مصر يجعل المحافظة على الانتاج أكثر تحدياً. وتحذر الأمم المتحدة بالفعل من أن مصر قد تعاني من نقص المياه بحلول عام 2025، بسبب تغير المناخ وتزايد عدد السكان.
لكن القطن يظل مرتبطا بالفخر المصري. فكان تلاميذ المدارس المصريون يقرأون عن القطن المصري طويل التيلة في الكتب المدرسية، وتنتشر الأغاني حول قطف القطن في الفولكلور المصري. رغم ذلك يعاني الكثير من المزارعون المصريون اليوم في سبيل محاولة الحفاظ على انتاجهم السنوي في ظل كلّ التحديات الصعبة التي تواجهها هذه الزراعة.
يشكل القطن المصري حكاية طويلة ومتشعبة تتداخل فيها الحضارة والتاريخ والاقتصاد. وحتى يومنا هذا، ظل هذا المنتج الزراعي الثمين يشكل ركيزة أساسية للاقتصاد المصري، وعلامة فارقة في تاريخه. ورغم التقلبات التي شهدها القطاع، إلا أن القطن المصري حافظ على مكانته المميزة في الأسواق العالمية، مما يؤكد جودته العالية وقدرته على التكيف مع المتغيرات الزمنية.